ليس بوسع أحدٍ أن ينفي علاقة العقل بالإيمان، بدعوى أنَّ كلاًّ منهما ظاهرةٌ قائمةٌ برأسها، ولا تستمد شيئاً من مقولات الأخرى! وبمعنى آخر :ليس له أن يعلن القطيعة التامّة بينهما على إمتداد التاريخ البشري، كما ليس له أن يزعم أنّهما متماهيان ومتفقان تماماً في -كلّ أو معظم - متبنياتهما ، بدعوى أنَّ العقل لا يغاير الإيمان وأنَّ الإيمان يدعو إلى التعقّل. بل إنّ المتتبع للتاريخ البشري – بإعتبار تلازم كلتا الظاهرتين لوجود الإنسان- سيلاحظ أنماطاً متفاوتةٌ من العلاقة بينهما، فتارةٌ تكون العلاقة على أساس التكامل والإلتقاء، وأخرى على أساس القطيعة والإحتراب، وثالثة تكون السطوة لأحدهما على الآخر؛ ليستغله طوعاً وكرهاً في توطيد مقولاته وتشييد مبانيه.
إنّ تعدد الآلهة في الديانات اليونانية والمصرية القديمة مثلاً، أو الثنوية كما في الديانات الفارسيّة القديمة أيضاً، وغيرها من الديانات، وإن كان له تفسيراتٌ متعدّدةٌ غير ما نراه إلاّ أنّنا نلمس إسهاماً واضحاً للعقل في تأسيسها وإن كان مأسوراً ومنقاداً للإيمان الاسطوري آنذاك . فظاهرة تعدّد الآلهة ليست إلّا مزاوجةٌ بين الإيمان والحاجة الفطريّة إلى الإعتقاد بوجود المبدأ، وبين معطيات العقل الذي لم يكن يرى أنّ من الممكن أن يكون شيءٌ واحدٌ منشأً لصفتين متناقضتين أو متضادتين، كالموت والحياة، والخير والشرّ، والنور والظلمة، فأفردت تلك الديانات لكلّ ظاهرة طبيعيّةٍ إلهاً يكون هو المنشأ لها والمتحكم فيها، وهذه المحاولات مهما كان رصيدها ، لا يبعد وجود خيوطٍ للتفكير العقلي فيها ،وإن كان بشكله البدائي البسيط.
لم يكد يختلف الموقف من العقل في ظلّ الأديان التوحيديّة عن سابقاتها، بل بقيت أنماط العلاقة بين العقل والدين محكومةً للسياقات نفسها، على الرغم مما تتضمّنه تلك المدوّنات الدينيّة من قيمةٍ وأهمّيّةٍ للعقل ، تختلف من جهة الوفرة والوضوح من دينٍ إلى آخر. فاليهودية على الرغم من سيطرة النزعة النصوصيّة الجموديّة عليها على مرّ التاريخ، شهدت على فتراتٍ متباعدةٍ نسبياً نشاطاً عقليّاً على أيدي فلاسفة يهود خرجوا عن أطار الإتّجاه اليهودي المتشدّد، ابتداءً بالفيلسوف فيلون (40ق م - 40م) والذي يُعدّ صاحب (التأويل الرمزي للتوراة) فقد وُصفَ بأنّه يصف النصّ التوراتي مجموعةً من الرموز التي ينبغي قراءتها وإعادة تأويلها وفقاً للفلسفة اليونانيّة؛ لإعادة الروح إليها. ثمّ تلاه فيلسوفان يهوديان هما، موسى بن ميمون (1135م1204) وسعد بن منصور بن الحسن بن هبة الدين المعروف بأبن كمونة المولود(1284م) وقد نشأ هذان الفيلسوفان في بيئةٍ إسلاميّةٍ، وتأثّرا أشدّ الـتأثّر بالفلاسفة والمتكلّمين المسلمين. ولا زالت كتبهما وأراؤهما معروفةً ومتداولةً إلى يومنا هذا. ووجود هؤلاء الفلاسفة -في أشدّ الديانات جموداً على ظاهر النصوص- مؤشّرٌ واضحٌ على بطلان مزاعم من يدّعي عدم الحاجة إلى المعطى العقلي في ظلّ الديانات الإلهيّة. أمّا في الديانة المسيحيّة فالأمر تعدى سابقتها بكثيرٍ ، من حيث الإعتناء بالنتاج العقلي, فقد شهدت الفترة من القرن الثالث إلى القرن الخامس الميلادي والمعروفة بـ(العصور المبكّرة) عدداً لا يستهان به من اللاهوتيين الذين حاولوا التوفيق بين المعرفة الدينيّة والمعرفة العقليّة أمثال ارينيوس ليون، تيرتوليان، اوريغن وأمبروز وأخرين، وفي الفترة اللاحقة أي من القرن الخامس إلى السادس عشر الميلادي، والمعروفة بـ(القرون الوسطى) شهدت المسيحيّة نشاطاً عقليّاً واسعاً. فقد تمخّضت تلك الفترة عن فلاسفة ولاهوتيين كبار، أبرزهم القديس أوغسطينوس ، والذي تعدّه الكنيسة من الآباء الذين كانوا منبعاً لتعاليم الإصلاح الديني، وقد تأثّر فكره اللاهوتي والفلسفي بالرواقيّة والأفلاطونيّة والأفلاطونيّة المحدثة وعلى وجه الخصوص بفكر أفلوطينوس . وبعيداً عمّن يعتبر العقل الأوربي المسيحي مأسوراً للاهوت الكنيسة، مع ما ينطوي عليه ذلك العصر من ظلمٍٍ وإجحافٍ ، فقد شهدت تلك الفترة ظهور مدارس وتياراتٍ وشخصياتٍ ، ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في نمو النتاج العقلي والديني، ولا زالت آثارهم مثاراً للبحث والدراسة حتّى يومنا هذا. وأمّا على صعيد الدين الإسلامي فالمسألة لا تكاد تقارن بكلّ ما تقدّم ، فقد بنى الإسلام على ضوء نصوصه الوضّاءة صروحاً جبارة ترفع قيمة التفكير العقلي إلى أبعد غاياته ، وتوليه إهتماماً قلّ نظيره، بل تنيط به معرفة أهمّ المسائل وأخطرها ممّا يرتبط بالعقيدة من حيث المبدأ والمنتهى ،وأنّ به عبادة الرحمن واكتساب الجنان، وبه تتم عقلنة الدين ، واستكناه روح التشريع العام، بل عُدّ ما حكم به العقل حكماً للشرع -بناءً على الملازمة-ولا يختلف الأمر في قضايا الحياة والمجتمع ... أقول: على الرغم من تأكيد الشرع أهميّة العقل وخطورة دوره في فهم الدين والحياة ، تنكّرت بعض فرق المسلمين ، لقيمة العقل ومعطياته ، مصرّةً أيّما إصرارٍ على قصور العقول عن إدراك مغازي التشريع ، وعلو مضامينه ، سواء أكان بمحض مقدّماته ، أم بالشراكة والتلفيق مع النصّ الديني ، بزعم شمول النصّ الديني وقدرته -بنحوٍ مستقلٍ- على تلبية حاجات الإنسان ومتطلبات حياته ، دونما حاجة الى العقل ودائرة أحكامه ، بل تعدى الحال ليشمل ما تأصّل في التفكير العقلي والمنطقي ، ليقرأ بروح النصّ الديني وثقافته ،فأعلنت بعض توجهات تلك الفرق إثر غلوها ، تطرّفاً في الموقف وحرباً تجاه خصومها العقليين ،لئلّا يقتحم العقل قلاع النصّ وحصونه المنيعة ، ومن الطريف أنّها إستعارت في مقام حجاج خصومها أدلّتهم نفسها وطرائق تفكيرهم!! فأصابها -تلك الفرق - الجمود والسطحيّة، فغدت عاجزة عن مجارات تطوّرات الحياة ، وانتزاع حلول ازاء مشاكلها . وما زالت تلك الفرق حاضرة في راهن عصرنا، متمثّلة بتياراتٍ وشخوصٍ في مختلف المذاهب الإسلامية... فيما اختلفت بقيّة الاتّجاهات الإسلاميّة في مقدار ثقتها بالعقل ، ومدى الركون إلى معطياته اختلافاً كبيراً، فالاتّجاه الفلسفي المشائي يرفع من منزلة العقل إلى منتهى الغايات ، فيعدّه المصدر الأوّل للعقيدة والإيمان، والسياسة والأخلاق ،والكشف عن حقائق الوجود، بينما يراه الاتّجاه الكلامي التقليدي وسيلةً للدفاع والمنافحة عن العقائد الدينيّة الثابتة بالوحي والرسالات الإلهيّة، دون أن يوليه أهميّةً في الكشف عنها، أو أن يمنح العقل دوراً في التأسيس العقائدي على ضوء مقولاته. فيما عمدت بعض المدارس الفلسفيّة التوفيقيّة إلى التسوية بين المعطى العقلي والديني، محاولة إيجاد نوعٍِ من العلاقة التكامليّة بينهما، مبنيةً على إساس التوفيق بين النصّ الديني والبرهان العقلي. ولم يقتصر هذا الصراع عند المسلمين على دور العقل في الجانب العقائدي، بل امتد ليشمل الجانب التشريعي والقانوني، وقد نتج عنه اتجاهاتٌ ونظرياتٌ لا تقل أهميّةً عن النظريّات التي طرحتها الاتّجاهات السابقة.
في القرن السابع عشر الميلادي ونتيجةً لهيمنة الكنيسة والفكر اللاهوتي لقرونٍ عديدةٍ ولد في أوربا منحىً جديداً من التفكير الفلسفي عُرف بالعقلانيّة. والعقلانيّة: نزعةٌ ومنهجٌ في التفكير يعدّ العقل هو الإساس في توليد أيّ معرفةٍ صحيحةٍ. عملت العقلانيّة في بداية نشأتها على إقصاء الحسّ، وعدم الاعتراف بالمعرفة الحسيّة. ويوصف رينيه ديكارت ( 1596-1650) أوّل وأشهر مؤسّسي العقلانية في عصر النهضة حيث يعتقد إنّ المعرفة بالحقائق الأبديّة مثل (الرياضيات والأسس الأبستمولوجيّة والميتافيزيقية للعلوم) يمكن اكتسابها عن طريق العقل وحده، دونما حاجة لأيّ نوعٍ من الخبرة الحسيّة، ويؤكّد على وجود أفكارٍ فطريةٍ تأتي من الإله وهي رأس مال المعرفة الحقيقة. توسعت مبادئ عقلانية ديكارت في القرن نفسه على يد باروخ سبينوزا (1632-1677) معتقداً عدم وجود أكثر من عقلانيّة واحدة شاملة للإنسان والطبيعة, لذا سعى الى تطبيق منهجٍ هندسي في قضايا مهمّةٍ منها الإلهية والأخلاق. وغوتفريد ليبنتز (1646-1716) لا ينفي ليبنتز إمكانية أن تكون التجربة مصدراً للمعرفة، ولا ينفي أيضا أن تلعب الحواس دورا في اكتشافنا للحقائق الأبدية والضروريّة، بل من الممكن أن تكون معرفتنا بحقائق الرياضيات والمنطق قد أُكتسبت عبر حواسنا, ولكن تبقى تلك الحقائق مستقلّة عن التجربة، فالتجربة لوحدها لا تعدو أن تكون منبّهاً وحسب. عرفت عقلانيّة هؤلاء الفلاسفة بـ (العقلانية القاريّة) و(العقلانية الفطريّة) وقد تعاقبت على نقد وتطوير العقلانية أجيالٌ من الفلاسفة، فولدت العقلانيّة التجريبيّة على يد ديفيد هيوم(1711 - 1776) والذي انتقد العقلانيّة الفطريّة بشدّة، وعمد إلى تأسيس فلسفة طبيعية تقوم على أساس تجريبي. ثمّ قدم إيمانويل كانت(1724 – 1804) عقلانيّة جديدة تجمع بين العقلانيّة الفطريّة والعقلانيّة التجريبيّة حيث يرى كانت أنّ استخدام العقل وحده دون التجربة لا يقود إلى المعرفة بل يقود إلى الأوهام. أما استخدام التجربة فلا يقود إلى معرفةٍ دقيقةٍ كونها لا تعترف بوجود مسببٍ أوّل، ذلك الذي يعترف به العقل المجرّد، وهكذا مرت العقلانيّة بمدارس وفلسفاتٍ متنوعةٍ، لذا فإنّ من الصعب حصر الاتّجاه العقلاني ضمن اتّجاهٍ واحدٍ أو اصدار حكمٍ كلّيٍ يشمل جميع أشكال العقلانيّة، وفيما يتعلّق بعلاقة العقلانيّة بالدين والإيمان خاصة، فإنّ فلاسفة العقلانيّة أنفسهم منقسمون تجاه الدين والميتافيزيقيا، فمنهم القائل بأنّ المذاهب الدينيّة ينبغي أن تختبر بمحكٍّ عقليٍّ. ومنهم من يرى عدم جواز الإيمان بخوارق الطبيعة، ومنهم من يوصف بخلاف ذلك. فليبتنز مثلا يؤمن بالمعجزات وخوارق الطبيعة، بينما يرفض هيوم الأديان بشكلٍ مطلقٍ، فيما يرى جون لوك1632- 1704) أنّ المبادئ الإلهية والأخلاقيّة قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها. فليس من الصحيح إذن وضع العقلانية بالمطلق في الجهة المقابلة للدين، بل ينبغي تقييم كلّ تجربةٍ عقلانيّةٍ منفردة، والحكم بقبولها أو رفضها للدين وفقاً لمبانيها ومنتجاتها. ونحن إذ نقدّم هذه الخلاصة المختصرة لمسير العقلانيّة وعلاقتها بالدين والإيمان، يسرّ مجلتنا (قراءات معاصرة) في عددها الرابع أن تضع هذا الموضوع بين يدي نخبة الباحثين والأكاديميين؛ لعلّنا نُسهم في رفد المعرفة الإنسانيّة، والله وليّ التوفيق.