الحمد لله ربّ العالمين، وصلِّ اللهم على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الذين أدّوا الأمانة، وحفظوا العهد، ولم يخالفوا تعاليم الرسول‘ القائل: >إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا<. وبعد، فقد خصّصنا محور العدد الخامس للمؤرّخ الدكتور محمد أركون، الأستاذ في جامعة السوربون، الذي تخصّص بدراسة تاريخ الفكر الاسلامي، بعد أنْ أيقن أنَّ تاريخ الفكر اليهودي أو المسيحي لا يحتاج إلى هذا الجهد، بعد أنْ تكفّل أهله بتفكيكه، والكشف عن أساطيره وخرافاته وأكاذيبه، وكلّ المطلوب من أركون الآن هو أنْ يقوم بجرّ هذا الجهد إلى القرآن الكريم، بعد أنْ ثبت له أنّه قرآنٌ محرّفٌ كتبته السلطة، ممثّلةً بعثمان، وبعض الصحابة، فأضافت له ما أضافت، وحذفت منه ما حذفت، وتلك هي رحلة النصّ، وهو ينتقل من عالمه الشفاهي إلى عالمه المدوّن, علماً أنَّ أركون لا يقدّم الأدلّة التي تثبت ذلك، ربّما لأنّ القضيّة بالنسبة له أشبه بالبديهيات والمقولات السابقة التي يحتاجها الباحث، إذا ما أراد الخوض في أيّة قضيّةٍ تعترضه. وإذا كانت أولى متطلبات البحث العلمي هي الأدلّة والبراهين والاثباتات، فإنَّ أركون يرى نفسه غير معنيٍّ بذلك، وتلك واحدةٌ من معضلات أركون العصيّة على الفهم. وإذا كان المستشرقون سبقوا أركون إلى القرآن الكريم، فقرأوه كما يقرأون التوراة والإنجيل، أي بوصفه كتاباً اسطورياً خرافيّاً تاريخيّاً وبشريّاً، فلا بأس عند أركون من تكرار هذه القراءة، لا سيّما أنَّ المستشرقين كانوا يتحدّثون عن إسلامٍ تاريخيٍّ، أما وإنّ هذا الإسلام التاريخي أثبت وجوده مرّةً أخرى عبر ثورةٍ إسلاميّةٍ اقتلعت رموز العمالة والتبعيّة العلمانيّة، فإنَّ التكرار سيكون ضرورةً وجوديةً، لإعادة الحياة إلى كلّ ما هو علمانيٌّ أرضيٌّ ومدنّسٌ. فمع نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران بدأت العلمانيّة تترنح وتلفظ أنفاسها في العالم الإسلامي على الأقلّ، لهذا فقد تكالب اعداء الدين على مواجهة هذه الثورة للإطاحة بها، وكان الفكر أحد تلك الأساليب التي لجئوا إليها، فوّظفوا المثقّفين العرب لهذه المهمّة، فصدرت العديد من الكتب التي ترد على الأطروحة الإسلاميّة بطريقةٍ مباشرةٍ، أو غير مباشرةٍ, فنشأ نوعٌ من الاستشراق الجديد، استشراقٌ عربيٌّ، بمعنى أنّ أبطاله هم المثقّفون العرب، ووظيفة هؤلاء تكرار مقولات المستشرقين الغربيين واجترارها، ولكنّ الساحة هذه المرّة هي القرآن. وكان المؤرّخ (محمد أركون) على رأس هؤلاء التكراريين، لذا فقد أعاد كتابة تاريخ الفكر الإسلامي من جهةٍ أخرى، هي غير الجهة التي دوّنها التاريخ الفعلي، فإذا كان التاريخ الفعلي يتحدّث عن دقّةٍ عاليةٍ، وغير مسبوقةٍ في تدوين القرآن الكريم، وحصره بين دفتين بطريقةٍ لم تحدث مع أيّ كتابٍ آخر، وإنَّ هذا التدوين بدأه الرسول‘ نفسه، عندما كان يكتب الوحي النازل عليه، عبر كُتّاب اختصّ بهم، واختصّوا به. إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ (أركون) سيدّعي العكس، بمعنى أنَّ ذلك لم يحدث، وبقيت النسخة النازلة على الرسول شفويّةً، والذين جاءوا بعده هم الذين دوّنوها، وتلاعبوا بها، بما يتناسب وطريقتهم في الحكم، لهذا نستطيع أنْ نشبه السيّد (أركون) بالسيّد (ماركس) الذي وجد السيّد (هيجل) واقفاً على رأسه، فأبى إلّا أنْ يوقفه على قدميه، ولكنَّ (اركون) فعل ذلك بطريقةٍ معكوسةٍ، أعني أنّه أوقف تاريخ الفكر الاسلامي على رأسه، بعد أنْ كان واقفاً على قدميه، في عمليّة تزوير كبرى لا يجيدها سوى العلمانيين الذين يرون الدين نكوصاً وارتداداً إلى عصور ما قبل التاريخ. ثُمّ قضية أخرى تستحقّ النقاش، هي قولنا: (إنَّ أركون مؤرّخٌ). وهذا المؤرّخ يدّعي أخذه لأحدث المنهجيّات الأقرب إلى كتابة تاريخ للأفكار منه إلى سرديّة الأحداث والوقائع وتحقيقها. والحقّ أنّنا أخذنا تلك المقولة من أركون نفسه، فهو يعد نفسه مؤرّخاً لا مفكّراً، وتلك هي حقيقته، ونحن نتفق فيها معه، ولكن هذا لا يعني أنّه ليس مفكّراً، لأنّ التاريخ في واحدٍ من وجوهه، إنْ هو إلّا تفكيرٌ وتحليلٌ، لا سيّما إذا ما تعلّقت الأمور بفلسفة الأحداث، لا مجرّد روايتها. كلّ ما هناك أنَّ أركون اختار تاريخاً آخر، هو تاريخ الأفكار، لا الأحداث، وهو تاريخ لا ينفصل عن التاريخ السياسي، فالأفكار تستمد قوّتها من القوّة السياسيّة والاقتصاديّة لدولةٍ ما، فالقوي يفرض مقولاته، وإن كانت هزيلةً، وهذا ما يفسّر شيوع الفكر الأمريكي في هذه العصور، رغم أنّه فكرٌ فقيرٌ، ومنحرفٌ، ولا يمتلك المقوّمات التي تؤهّله لقيادة العالم، أو تقديم الدروس الأخلاقيّة له، ولكن يبقى للقوّة منطقها. لهذا فقد قسّمَ أركون تاريخ الفكر الإسلامي إلى خمس مراحل: مرحلة البزوغ، ومرحلة التبلور، ومرحلة النضج والثبات، ومرحلة الاجترار والتكرار، وأخيراً مرحلة الانكفاء والتقوقع. ثُمّ عمّم كلماته المكرّرات على المراحل الأولى من دون أنْ يميّز بينها، أو يرى فيها بصيص أملٍ، يمكن اجتراره وتكراره، إذا ما استثنينا اللحظة الاعتزاليّة التي وأدت قبل أنْ تستكمل دورتها في الطبيعة, ونعني باللحظة الاعتزاليّة قولهم الذي يحتفل به العلمانيون كثيراً: (إنَّ القرآن حادثٌ لا قديمٌ) متناسياً أنَّ هذه الدورة كانت موجودةً عند الشيعة، حتّى قبل ظهور المعتزلة دون أن يعنوا بها أنّ القرآن تاريخيٌّ أو بشريٌّ، كما يفهمها هو، ولكن أركون ـ وعلى طريقة المستشرقين ـ يتجنّب الخوض في الارثوذكسيّة الشيعة، لأنّه يرى أنَّ أمرها سهلٌ، تارة لأنّها قلّة قليلةٌ، وتارة لأنّ لديها نزوعاً عرفانيّاً غنوصيّاً، أو لأنّ حركتها الاجتهاديّة مستمرةٌ في الكلام والفقه، ولرفضها التاريخي للارثوذكسيّة السنيّة. وإذا كانت هذه الأسباب غير مقنعةٍ لم يبق سوى أنّ (الأرثوذكسيّة الشيعيّة) تُفْشِل كلّ مخططات أركون ومشاريعه الرامية إلى إبعاد الإسلام عن مسرح الحياة، لا سيّما أنَّ باب الاجتهاد لديها مفتوحٌ، وقرآنها حادثٌ لا قديمٌ، ومع ذلك فهو (يجري مجرى الليل والنهار، يسري مسرى الشمس والقمر) بتعبير أمامنا الصادق×, فضلاً عن نجاحها في إقامة (دولةٍ إسلاميّةٍ)، أثبتت للعالم عمليّاً، أنَّ (الدين يقود الحياة)، ويستجيب لحاجاتها، ويجيب عن أسئلتها الحديثة والمعاصرة، عبر منطقة الفراغ التشريعي، وهي منطقةٌ مفتوحةٌ على المستقبل، ولكنّها محاطةٌ بضرورات الشريعة وثوابتها. وبعد، فقد ركّزنا في هذه الإفتتاحية على القضيّة الأهمّ التي تسيطر على عقل أركون وفكره وتاريخه، ألا وهي القرآن المحرّف والبشري، فليس ثمّة كتاب من كتبه يخلو منها، بل إنّه سيعمد على تكرارها بطريقةٍ غريبةٍ، ربّما لأنّه يريد منا ـ نحن القرّاء ـ أن نحفظها عن ظهر قلب. ولأنّ الثقافة الإسلاميّة هي ثقافة النصّ القرآني، بمعنى أنّها انبثقت منه وتخلّقت بأخلاقه، فقد عمل أركون على تشويه ذلك النصّ، وإبعاده عن الحياة، لتحقيق فرضيّته العلمانيّة التي ستخرج الناس من النور إلى الظلمات، ذلك أنّه لا يطيق أنْ يرى المجتمعات الإسلاميّة تعيش في النور، وتتنقل في ظلاله، لذا فليس غريباً أن نقرأ، في هذا العدد نوعاً من القراءة المختلفة مع توجّهات أركون، وتلك هي طبيعة القراءة لا سيّما إذا ما انطلقت من رؤيةٍ مغايرةٍ ترى في القرآن الكريم مرجعاً ودستوراً وخلاصاً من الظلم والاستبداد والتبعيّة، فالباحث الإسلامي وهو يقرأ أركون سيجد نفسه في منطقةً أخرى، لا تكاد تلتقي معه، لهذا فنحن نشدّ على أيدي الباحثين الذين يكشفون الزيف ويردّون عليه، بأسلوبٍ ثقافيٍّ حواريٍّ يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن. وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربّ العالمين. وصلِّ اللهم على محمّدٍ وآل بيته الطيبين الطاهرين.