الحديث عن السيد الشهيد الثاني (محمد محمد صادق الصدر+) او محاولة استيعابه, عملية أشبه ما تكون بوصف لتلك اللحظات القصيرة جداً والمهمة جداً من تكوين (الاشياء) أو حدوثها من العدم. تلك اللحظات الخاطفة المشوبة بنكهة الخطر ورائحة الأمل وطعم الآلام. هو ذلك البرق الخاطف في الليالي المظلمة الذي يكشف للتائهين ـ هكذا بلحظة واحدةـ أين هم وإلى أين يسيرون وما الذي يواجهونه، ثم يسود الظلام من جديد {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ * كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ}. لحظة التنوير هذه -على قصرها- هي أهم ما يمكن أن يحدث لأولئك اللذين ولدوا في التيه أو القابعين في ظلماته، الاكلين طوال حياتهم من سلوى النسيان. الحديث عن الصدر, حديث عن رؤية خاطفة لطريق كان خافياً لسنين طوال، ثم الانقسام فيه بين سالك ومتخوف. والانقسام بعد العلم هو ما يميز طريق الصالحين {وَمَا اخْتَلَفَ الَّلذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}. علمنا التاريخ أن ما يكون بعد لحظات التنوير هذه لن يكون مشابها لما قبلها، وان سيرورة اجتماعية جديدة على وشك الحدوث، ستتبعها لا محالة صيرورة لواقع جديد. فلا الشجعان الاوائل اللذين اقتحموا الطريق بقوا على حالهم، ولا المتقهقرون عن السلوك. كذلك كانت تلك اللحظات القصيرة من عمر العراقيين وكأنها القطب الذي يعيد تدوير (الأشياء) حوله، فمنها من يقترب، أو حتى يقترن، ومنها من ينأى ويبتعد، ليتشكل ـ من الجميع ـ كيان آخر، هو الوليد الجديد لعالم قادم قريب. لن نكون مبالغين إن قلنا إنَّ ما حدث في العراق إبان الحركة الاجتماعية التي أطلق شرارتها السيد الشهيد والمتمثلة باعادة اقامة صلاة الجمعة, وما لازمها من خطب ولقاءات وأحداث، قد امتد تأثيرها الى كل العالم. المقطع الزمني الذي حدث فيه ذلك الحراك، والذي وافق قبيل القرار الأممي باسقاط نظام صدام كان ذو أهمية بالغة. فقد كان اشبه بالمسحوق السحري الذي يلقيه الخيميائي في دورقه ليقلب مسار التفاعل رأساً على عقب، ولينتهي بنهاية ما كان لأحد أن يتوقعها. كانت حركة الصدر في العراق هي ما تصفه نظريات علم الفوضى بالأحداث الصغيرة جداً (خفقة جناح فراشة) التي يتولد منها حدث عظيم جداً (إعصار مدمر) في منطقة بعيدة جداً. متتاليات حركة الصدر السياسية والاجتماعية لم تنته بعد، ولذلك فلا يمكن لأحد تأريخها أو أرشفتها. فكل الحركات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية التي اشتقت من حركة الصدر ما زالت وليدة بحساب عمر الحركات الاجتماعية. فنحن لم نشهد إلى الآن سوى متتالية واحدة ربما، أو اثنتين من تفاعل ذلك (البرق) الأوّل مع الاحداث. لذلك، نرى أن، الحديث عن الصدر وما رافقه ويرافقه من تغييرات يعد حديثاً مبكراً جداً وسابقاً لاوانه بشكل كبير، واقرب الى التنبؤات والعرافة منه الى البحث العلمي, لكن مع هذا فالعقل البشري مجبول على التفكر والحركة والتحليل. والتفكير والتحليل العقلي والتأمل بهذا الشخص وبما جاء به لا غنى لنا عنه ونحن نعيش أحدى متتالياته. في هذا العدد كان الباحثون أحراراً في أن يروا ذلك (البرق الخاطف) كلٌ من جهته وبحسب باصرته وبصيرته. فاختار الباحث (أيوب ناصر نعمة) أن يناقش موضوع طريقة الصدر في التعامل مع الفراغ اليقيني في المواضيع المعرفية باتباعه منهج الاطروحة، وفرَق الباحث بين هذا المنهج ومنهج اللاتفريط، موضحاً أهمية الاول في حقول المعرفة ذات الطابع اللايقيني. أما الباحثة ( آلاء عبد الحُسين طاهر مُحَمَّد الرُّبيعي) فقد ارتأت أن تلاحظ مصدر (البرق الخاطف) وكيف إنه مشتق من النور الأوّل والضياء الأمثل، المتمثل بالقران المحمدي الأكمل. إذ كان بحثها يدور حول إظهار التداخل النصي بين خطب الشهيد الصدر والقران الكريم. في حين حلق باحث آخر(ربيع مزهر محمود) راكبا الفينيق في سماء أحد كتب الشهيد+ باحثاً عن جذور اليوتوبيا في الفكر الانساني وناقدا للطرح الماركسي الذي نقده وأشار اليه الصدر في كتابه مار الذكر. باحثان آخران آثرا أن يريا نور البرق من جهة أخرى تماماً، هي جهة النقد الأدبي لنصوص مختارة من كتابات السيد الشهيد. ارتأى الباحث (علي حسن هذيلي) ان ينقد طريقة السيد الصدر في النقد الادبي، لنحصل منه على بحث في نقد النقد، اختار فيه نصوص أدبية كان السيد الصدر قد علق عليها من قبلُ ناقداً. فيما اختار الباحث ( أ.د.عبدالحسين طاهر الربيعي) ان يقدم لنا قراءة نقدية لنص أدبي بقلم السيد الشهيد نفسه. يحتوي العدد أيضاً (في قسم الدراسات) على ثلاثة أبحاث مختلفة في مجالات الفكر والمعرفة جديرة حقاً بالقراءة. أخيراً نعيد القول أن السيد الصدر كان ظاهرة أو بداية لظاهرة ما زالت في حركة وتفاعل وتغيير, هذا أولاً. وثانيا: نحن ـ من جهة من الجهات ـ كلنا نتاج هذه الحركة, و(كلنا) تعني إن كنا معها أو ضدها أو على الاقل من ضمن مواد أو عوامل هذه الحركة الإجتماعية الكبرى. وبذلك فنحن في داخل عملية الصيرورة الجديدة وغير منفصلين عنها. والبحث او الكتابة عن (حالة) انت جزء منها أو في داخلها هو بحث وكتابة عن النفس بشكل من الاشكال، ومحاولة للتعرف عليها وفهمها من وجهة من الوجوه...